"من الكلمات والمفاهيم ما كثر تداوله واستعماله إلى درجة أصبح معها "واضحاً" وضوح المألوف من الأشياء، ولكن من الصعوبة تحديده وتعريفه!
و"الديمقراطية" من هذه المفاهيم والكلمات... فنحن عندما نستعمل هذه الكلمة نقصد "شيئاً" من ورائها، ولكن عندما نطرح على أنفسنا سؤالاً مثل: ما هو، بالضبط، هذا "الشيء" الذي تعنيه هذه الكلمة، فإننا نفقد طلاقة اللسان وسهولة التعبير. وكل ما نشعر به هو أننا نبحث عن شيء كان يتراءى لنا أننا نعرفه، فإذا به ملفوف أشد ما يكون اللف في غموض نصف شفاف، فلا هو يكشف عما وراءه، ولا هو يسدل من حوله ستاراً لا نفاذ من خلاله.
أمام هذا الموقف، يبدو أن استعراض تاريخ هذه الكلمة قد يساعدنا على تفهم معناها الذي نعنيه بالضبط. ولكن حتى لو فعلنا هذا لما خرجنا بغير نتيجة واحدة، وهي أن مفهوم الديمقراطية قد تغير وتبدل، وأنه في تطور دائم، يستمد حركته التطورية من حركة التطور التاريخي التي لا تني ولا تقف. ففي كل عصر، بل لربما أثناء العصر الواحد نفسه، كان هناك مفهوم للديمقراطية، إن لم يكن مخالفاً للمفهوم الذي ساد قبله، فهو على الأقل مغاير له إلى حد كبير.
إن اللفظة اليونانية، واعتقد أن الذي استعملها أول مرة كان يقصد منها التعبير عن فكرة مثالية، أكثر من التعبير على واقع حي أو على تجربة ممارسة، أو تمكن ممارستها.
إن "حكم الشعب نفسه بنفسه"، وهذا هو المعنى اليوناني الأصلي، أعتقد أنه ما تم ولن يتم في أي عصر من العصور: إن فكرة "الشعب" تستدعي مقابلاً لها وهو فكرة "الدولة"، فمن الصعوبة تصور شعب دون نوع من التنظيم يضبط هذا الشعب. ومن الصعب كذلك تصور تنظيم بدون نوع من الجهاز الرابط المنسق. وكيفما كان هذا الجهاز فإنه لا يمكن إلا أن يكون "الدولة" أو مؤسسة قريبة الشبه بهاز ثم إن كلمة "حكم" نفسها لا يتحدد معناها إلا إذا كان هناك طرفان: أحدهما حاكم والآخر محكوم، هذا علاوة على الأداة أو الوسيلة التي تجسم العلاقة الضرورية بين هذين الطرفين.
وفي عهد الرومان، كما في القرون الوسطى، أرى أنه ما كان في مكنة أي شخص عاقل أن ينشد الديمقراطية في معناها الذي ذكرنا "حكم الشعب نفسه بنفسه"! فكل ما يمكن أن يطلبه آنذاك عاشق الديمقراطية أو المناضل من أجلها هو مجتمع لا يقسم فيه أفراد الشعب بصفة رسمية إلى سادة وعبيد، أو إلى نبلاء من جهة، وإلى أرقاء وأقنان من جهة أخرى.
أما في العصر الحديث فإن مفهوم الديمقراطية قد ارتبط بفكرة الإنتخاب: فإعطاء الحق في الإنتخاب لجميع أفراد الأمة، رجالاً ونساءً، كان يجسد المعنى الواقعي للكلمة.
غير أن الإنتخاب ليس كل ما في الديمقراطية من معنى. نعم إن الإنتخاب نوع من الديمقراطية. ولكن ليكون الإنتخاب حقيقياً يجب ان يبنى على أسس ديمقراطية! أي على أساس المساواة في الإمكانيات والإمكانات والوسائل، وإلا فإن الديمقراطية التي تهدف إلى انتخاب الشعب لمن يحكمونه لا يمكن أن تسفر إلا عن حكام من فصيلة واحدة، أو بعبارة أخرى، من طبقة واحدة: الطبقة الحاكمة أبداً في ظل أوضاع تفتقر إلى المساواة.
وفي العالم العربي اليوم تعني الديمقراطية أولاً الحرية السياسية ليتمكن المواطنون من أداء واجبهم الإنتخابي، وتعني ثانياً الحرية الإقتصادية الليبرالية ليتمكن كل شخص، حقيقي أو معنوي، من القيام بنشاطه الإقتصادي حسب وسائله وإمكانياته، دون أي تحديد لمجال حريته وتصرفه، ودون أي توجيه من أي جانب من جوانب هذا النشاط.
والنتيجة الحتمية لهذا النوع من الديمقراطية وهو اللاديمقراطية، ذلك لأن الحرية السياسية والحرية الإقتصادية هما حرية حقاً ولكن لمن يستطيع التمتع بهما. وبما أن التفاوت الهائل بين أفراد الأمة هو الطابع الأساسي للمجتمع الراهن، فإن الحرية السياسية والحرية الإقتصادية لا يمكن أن يستفيد منهما إلا أولئك الذين يوجدون في "فوقية" المجتمع. وهكذا تؤدي الديمقراطية الإنتخابية السياسية والديمقراطية الليبرالية إلى اللاديمقراطية. فطبقة الرأسماليين هم وحدهم الذين في إمكانهم استعمال هذه الحرية، وبالتالي هم وحدهم المتمتعون بحق الحكم في رقاب الشعب، والتحكم في موارده ومقدراته.
وهكذا أيضاً، بعد أن كان استبداد طبقة معينة على المجتمع يكتسي طابعا قسرياً لاقانونياً، أصبح اليوم بفضل الديمقراطية استبداداً اختيارياً يستمد اختياريته هذه من الإنتخاب الذي "يتمتع" به كافة أفراد الشعب.
وما هو هذا "الإنتخاب" الذي يشكل جوهر الديمقراطية السياسية؟ إن الإنتخاب معناه الإختيار: أن يختار الإنسان: معناه أن عدة إمكانات توضع أمامه ليختار منها أيا يشاء.
ولكن هي في إمكان كل فرد من أفراد الشعب أن يختار؟ الجواب: لا، بالتأكيد!
ليختار المرء يجب أن يكون حراً: أن يريد، ويعرف ما يريد، ولماذا يريد، ويملك القدرة على تحقيق هذا الذي يريد!
وهنا توضع علاقة الحرية بالإرادة. وهي علاقة كثيراً ما شغلت بال الفلاسفة والمفكرين. ونحن هنا لن ننساق مع التفكير الميتافيزيقي في هذا الموضوع. وحسبنا أن نقول: إن الحرية تصبح استعباداً واستغلالاً إذا كان هناك تفاوت في القدرة على التمتع بها. إن حرية الشعب لا تعني غير الإستبداد والإستغلال إذا كان أفراده يعيشون في أوضاع تتحكم فيها اللامساواة. كيف يكون الفقراء أحراراً جنباً إلى جنب مع الأغنياء؟ كيف يكون الجهال الأميون أحراراً جنباً إلى جنب مع من يملكون السلاح العلمي والتفكير؟ إن الجائع لا يمكن أن يختار لأنه إن تمكن من أن يريد فإنه لا يعرف بالضبط ما يريد، ولماذا يريد، ولا يملك القدرة على تحقيق إرادته.
من هذا نرى أن الديمقراطية تنحل في الأخير إلى المساواة. ولعل هذا هو المفهوم الشعبي للكلمة في أيامنا هذه وفي بلادنا وأمثالها من البلدان: اسأل رجلاً من الشارع: ماذا تعني بالديمقراطية؟ إنه سيجيبك بكلام تلخصه في النهاية كلمة المساواة. المساواة في الحقوق، في الواجبات، في ظروف العيش، في قاعات المحاكم، في دهاليز الإرادة، في أبواب المدارس، في كل شيء. وبعبارة أخرى: إنه يفهم من الديمقراطية ما اصطلح على تسميته بالديمقراطية الإجتماعية، وبالتالي فهو لا يعير كبير اهتمام للديمقراطية السياسية: ديمقراطية الإنتخاب والأحزاب.
هنا نجد أنفسنا مضطرين لإلقاء هذا السؤال: هل أصبحت الديمقراطية السياسية عديمة الجدوى، بل وبالا على الشعب؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن الديمقراطية السياسية (انتخاب الحاكمين) كانت ولا تزال يقصد منها ظاهريا على الأقل الوصول إلى أوضاع ينتفي منها الظلم والحيف والمحاباة، بالتالي تتحقق فيها المساواة: فالشعب، وهكذا يقول أنصارها، عندما يختار حاكميه يفترض فيه أن يختار من يفهمون رغباته وأهدافه، كما يفترض في هؤلاء أن يعملوا وفق تلك الرغبات والأهداف وإلا فقدوا ثقة الشعب، وبالتالي يبعدون من الحاكم؟
فهل حققت الديمقراطية السياسية، أو في إمكانها أن تحقق هذا الهدف؟
إن التجارب المتعددة التي يعرفها التاريخ، لا تسمح بالرد بالإيجاب! ذلك أن القضية في أساسها تتوقف كما قلنا على مدى تمكن الشعب من القدرة على الإختيار. وبغض النظر عن ذلك، هناك واقعة أخرى لابد من إعارتها كبير اهتمام: ففي كل عصر كان هناك شعب، وكان هناك حكام، وفي كل عهد كانت مصالح الطرفين متناقضة. والإنتخاب عملية ضخمة معقدة يقوم بتسييرها الحكام أنفسهمن يوجهها الوجهة التي يريدون، أولئك الذين يملكون وسائل الدعاية ويتقنون فنون تكييف الرأي العام. وطبيعي أن تكون النتائج لفائدة هؤلاء وأولئك، وهم من طبقة واحدة وذوو مصالح مشتركة. فمهما كان وعي الشعب قوياً وسخطه على الأوضاع حاداً، هناك بالمقابل عدة وسائل وطرق لتزييف إرادته. وكم من مرات زيفت الإنتخابات! إن عملية الإنتخاب والتزييف أصبحتا متلاحمتين لا تفترقان، خاصة في البلدان التي برز فيها الصراع بين الشعب والحكام.
ونعود إلى سؤالنا السابق: هل أصبحت الديمقراطية عديمة الجدوى؟ وبعبارة أخرى هل صحيح أن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تحقق أهداف الشعب وآماله، ومن ثم يجب الكفران بها ومحاربتها وباعتبارها عملية تزييف وتضليل!
أراني مرة أخرى أؤجل الجواب عن هذا السؤال لأطرح سؤالاً آخر أساسياً في الموضوع: ما هي أهداف الشعب وآماله؟
في كل زمان وفي كل مكان يهدف الشعب إلى حياة أفضل، حياة خالية من المظالم الإجتماعية. إنه وإن لم يكن الرجل فقيراً معدماً فإن مجرد وجود أناس بجانبه أكثر منه ثروة وأكبر إمكانيات يجعله يشعر بالحرمان، بالظلم الإجتماعي. وليس من الضروري أن يعي هذا الرجل حقيقة هذا الظلم ومصدره، فإن مجرد شعوره بالحرمان يجعله في قلق وبؤس.
فأهداف الشعب إذن تتخلص في خلق أوضاع يعيش في كنفها في غير قلق ولا بؤس. وبديهي أن مثل هذه الأوضاع لا يمكن خلقها إلا على أنقاض الأوضاع الظالمة التي يرزح تحتها، وهي نفسها الأوضاع التي تيسر لفئة قليلة من الأمة العيش الرغيد والحياة الكريمة. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الفئة وتناضل بكل قواها للحفاظ على هذه الأوضاع كما هي، إن لم تعمل على تنميتها.
هناك صراع إذن بين أغلبية ساحقة لا يمكن لأهدافها أن تتحقق إلا بتغيير هذه الأوضاع، وبين أقلية تجد السعادة في إبقائها وصيانتها. وهو صراع، رغم حدته، كثيراً ما لا تدرك كنهه وحقيقته تلك الأغلبية، نظراً لأنواع كثيرة من أساليب التضليل المسلط عليها والخرافات والأوهام التي تُركَّز في أدمغتها والتي تجعلها تعيش، إن لم تكن في يأس وتسليم، ففي عالم من الأحلام والمتمنيات والتشهيات. اسأل فلاحاً معدماً في أية ناحية من نواحي البلاد عما يتمنى إدراكه! يجيبك بأنه يتمنى أن يملك كذا هكتاراً، وكذا بقرة، وأنه يرجو أن يصبح مثل السيد فلان صاحب الأراضي الشاسعة والفيلا الضخمة والتراكتورات والسيارات... إلخ! واسأل عاملاً في المعمل عما يتمناه، يجيبك بأنه يرغب في أن يستريح من هذا العمل الشاق بأن يكون صاحب معمل ولو صغير، أو على الأقل صاحب عمل يسيره ويشتغل فيه معه أناس آخرون! واسأل أي بقال أو أي صاحب دكان يجيبك بأنه يتمنى أن يكون لديه حانوت أكبر وأوسع ورأس مال أضخم وأكبر! اسأل أحداً من هؤلاء عن ماذا يفهمه من كلمة "ديمقراطية"؟ يجيبك، كما ذكرنا آنفاً، بأنه يفهم المساواة، ولكن المساواة "الفوقية" لا المساواة "التحتية"، إن صح هذا التعبير. إنه يريد أن يصبح الفقراء أغنياء، ولا أعتقد أنه يرغب في أن يصبح الأغنياء فقراء ويبقى واحداً منهم.
نعم، ليست هذه النظرة هي نظرة مجموع أفراد الطبقة المحرومة، ولكن هي بالتأكيد نظرة الغالبية العظمى منهم، خاصةً في البلاد المتخلفة حيث يسيطر التخلف الفكري إلى جانب التخلف المادي، وحيث طبع النظام الرأسمالي والأساليب الرأسمالية عقول الناس.
ونعود إلى سؤالنا السابق: أمام هذا هل في إمكان الديمقراطية السياسية أن تحقق أهداف الشعب؟
الآن نستطيع أن نجيب بكل وضوح، فنقل: لا. فالديمقراطية السياسية هي ديمقراطية الحاكمين أو الأغنياء. ولكن، ليس معنى هذا أن نكفر بها ونحاربها. كلا. إنها، إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى، وسيلة يمكن إذا أحسن استعمالها أن تساعد كثيراً على تجلية الحقيقة الإجتماعية، حقيقة الصراع الذي أشرنا إليه أعلاه.
فالديمقراطية السياسية بما تدعيه من تأكيد وتوطيد للحريات العامة- ولو بصفة شكلية- في إمكانها أن تمنح كثيراً من الفرص التي تمكن من تفتيح أدمغة الشعب على تلك الحقيقة. وبعبارة أخرى إنها وسيلة ضرورية لتوعية الجماهير.
و"الديمقراطية" من هذه المفاهيم والكلمات... فنحن عندما نستعمل هذه الكلمة نقصد "شيئاً" من ورائها، ولكن عندما نطرح على أنفسنا سؤالاً مثل: ما هو، بالضبط، هذا "الشيء" الذي تعنيه هذه الكلمة، فإننا نفقد طلاقة اللسان وسهولة التعبير. وكل ما نشعر به هو أننا نبحث عن شيء كان يتراءى لنا أننا نعرفه، فإذا به ملفوف أشد ما يكون اللف في غموض نصف شفاف، فلا هو يكشف عما وراءه، ولا هو يسدل من حوله ستاراً لا نفاذ من خلاله.
أمام هذا الموقف، يبدو أن استعراض تاريخ هذه الكلمة قد يساعدنا على تفهم معناها الذي نعنيه بالضبط. ولكن حتى لو فعلنا هذا لما خرجنا بغير نتيجة واحدة، وهي أن مفهوم الديمقراطية قد تغير وتبدل، وأنه في تطور دائم، يستمد حركته التطورية من حركة التطور التاريخي التي لا تني ولا تقف. ففي كل عصر، بل لربما أثناء العصر الواحد نفسه، كان هناك مفهوم للديمقراطية، إن لم يكن مخالفاً للمفهوم الذي ساد قبله، فهو على الأقل مغاير له إلى حد كبير.
إن اللفظة اليونانية، واعتقد أن الذي استعملها أول مرة كان يقصد منها التعبير عن فكرة مثالية، أكثر من التعبير على واقع حي أو على تجربة ممارسة، أو تمكن ممارستها.
إن "حكم الشعب نفسه بنفسه"، وهذا هو المعنى اليوناني الأصلي، أعتقد أنه ما تم ولن يتم في أي عصر من العصور: إن فكرة "الشعب" تستدعي مقابلاً لها وهو فكرة "الدولة"، فمن الصعوبة تصور شعب دون نوع من التنظيم يضبط هذا الشعب. ومن الصعب كذلك تصور تنظيم بدون نوع من الجهاز الرابط المنسق. وكيفما كان هذا الجهاز فإنه لا يمكن إلا أن يكون "الدولة" أو مؤسسة قريبة الشبه بهاز ثم إن كلمة "حكم" نفسها لا يتحدد معناها إلا إذا كان هناك طرفان: أحدهما حاكم والآخر محكوم، هذا علاوة على الأداة أو الوسيلة التي تجسم العلاقة الضرورية بين هذين الطرفين.
وفي عهد الرومان، كما في القرون الوسطى، أرى أنه ما كان في مكنة أي شخص عاقل أن ينشد الديمقراطية في معناها الذي ذكرنا "حكم الشعب نفسه بنفسه"! فكل ما يمكن أن يطلبه آنذاك عاشق الديمقراطية أو المناضل من أجلها هو مجتمع لا يقسم فيه أفراد الشعب بصفة رسمية إلى سادة وعبيد، أو إلى نبلاء من جهة، وإلى أرقاء وأقنان من جهة أخرى.
أما في العصر الحديث فإن مفهوم الديمقراطية قد ارتبط بفكرة الإنتخاب: فإعطاء الحق في الإنتخاب لجميع أفراد الأمة، رجالاً ونساءً، كان يجسد المعنى الواقعي للكلمة.
غير أن الإنتخاب ليس كل ما في الديمقراطية من معنى. نعم إن الإنتخاب نوع من الديمقراطية. ولكن ليكون الإنتخاب حقيقياً يجب ان يبنى على أسس ديمقراطية! أي على أساس المساواة في الإمكانيات والإمكانات والوسائل، وإلا فإن الديمقراطية التي تهدف إلى انتخاب الشعب لمن يحكمونه لا يمكن أن تسفر إلا عن حكام من فصيلة واحدة، أو بعبارة أخرى، من طبقة واحدة: الطبقة الحاكمة أبداً في ظل أوضاع تفتقر إلى المساواة.
وفي العالم العربي اليوم تعني الديمقراطية أولاً الحرية السياسية ليتمكن المواطنون من أداء واجبهم الإنتخابي، وتعني ثانياً الحرية الإقتصادية الليبرالية ليتمكن كل شخص، حقيقي أو معنوي، من القيام بنشاطه الإقتصادي حسب وسائله وإمكانياته، دون أي تحديد لمجال حريته وتصرفه، ودون أي توجيه من أي جانب من جوانب هذا النشاط.
والنتيجة الحتمية لهذا النوع من الديمقراطية وهو اللاديمقراطية، ذلك لأن الحرية السياسية والحرية الإقتصادية هما حرية حقاً ولكن لمن يستطيع التمتع بهما. وبما أن التفاوت الهائل بين أفراد الأمة هو الطابع الأساسي للمجتمع الراهن، فإن الحرية السياسية والحرية الإقتصادية لا يمكن أن يستفيد منهما إلا أولئك الذين يوجدون في "فوقية" المجتمع. وهكذا تؤدي الديمقراطية الإنتخابية السياسية والديمقراطية الليبرالية إلى اللاديمقراطية. فطبقة الرأسماليين هم وحدهم الذين في إمكانهم استعمال هذه الحرية، وبالتالي هم وحدهم المتمتعون بحق الحكم في رقاب الشعب، والتحكم في موارده ومقدراته.
وهكذا أيضاً، بعد أن كان استبداد طبقة معينة على المجتمع يكتسي طابعا قسرياً لاقانونياً، أصبح اليوم بفضل الديمقراطية استبداداً اختيارياً يستمد اختياريته هذه من الإنتخاب الذي "يتمتع" به كافة أفراد الشعب.
وما هو هذا "الإنتخاب" الذي يشكل جوهر الديمقراطية السياسية؟ إن الإنتخاب معناه الإختيار: أن يختار الإنسان: معناه أن عدة إمكانات توضع أمامه ليختار منها أيا يشاء.
ولكن هي في إمكان كل فرد من أفراد الشعب أن يختار؟ الجواب: لا، بالتأكيد!
ليختار المرء يجب أن يكون حراً: أن يريد، ويعرف ما يريد، ولماذا يريد، ويملك القدرة على تحقيق هذا الذي يريد!
وهنا توضع علاقة الحرية بالإرادة. وهي علاقة كثيراً ما شغلت بال الفلاسفة والمفكرين. ونحن هنا لن ننساق مع التفكير الميتافيزيقي في هذا الموضوع. وحسبنا أن نقول: إن الحرية تصبح استعباداً واستغلالاً إذا كان هناك تفاوت في القدرة على التمتع بها. إن حرية الشعب لا تعني غير الإستبداد والإستغلال إذا كان أفراده يعيشون في أوضاع تتحكم فيها اللامساواة. كيف يكون الفقراء أحراراً جنباً إلى جنب مع الأغنياء؟ كيف يكون الجهال الأميون أحراراً جنباً إلى جنب مع من يملكون السلاح العلمي والتفكير؟ إن الجائع لا يمكن أن يختار لأنه إن تمكن من أن يريد فإنه لا يعرف بالضبط ما يريد، ولماذا يريد، ولا يملك القدرة على تحقيق إرادته.
من هذا نرى أن الديمقراطية تنحل في الأخير إلى المساواة. ولعل هذا هو المفهوم الشعبي للكلمة في أيامنا هذه وفي بلادنا وأمثالها من البلدان: اسأل رجلاً من الشارع: ماذا تعني بالديمقراطية؟ إنه سيجيبك بكلام تلخصه في النهاية كلمة المساواة. المساواة في الحقوق، في الواجبات، في ظروف العيش، في قاعات المحاكم، في دهاليز الإرادة، في أبواب المدارس، في كل شيء. وبعبارة أخرى: إنه يفهم من الديمقراطية ما اصطلح على تسميته بالديمقراطية الإجتماعية، وبالتالي فهو لا يعير كبير اهتمام للديمقراطية السياسية: ديمقراطية الإنتخاب والأحزاب.
هنا نجد أنفسنا مضطرين لإلقاء هذا السؤال: هل أصبحت الديمقراطية السياسية عديمة الجدوى، بل وبالا على الشعب؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن الديمقراطية السياسية (انتخاب الحاكمين) كانت ولا تزال يقصد منها ظاهريا على الأقل الوصول إلى أوضاع ينتفي منها الظلم والحيف والمحاباة، بالتالي تتحقق فيها المساواة: فالشعب، وهكذا يقول أنصارها، عندما يختار حاكميه يفترض فيه أن يختار من يفهمون رغباته وأهدافه، كما يفترض في هؤلاء أن يعملوا وفق تلك الرغبات والأهداف وإلا فقدوا ثقة الشعب، وبالتالي يبعدون من الحاكم؟
فهل حققت الديمقراطية السياسية، أو في إمكانها أن تحقق هذا الهدف؟
إن التجارب المتعددة التي يعرفها التاريخ، لا تسمح بالرد بالإيجاب! ذلك أن القضية في أساسها تتوقف كما قلنا على مدى تمكن الشعب من القدرة على الإختيار. وبغض النظر عن ذلك، هناك واقعة أخرى لابد من إعارتها كبير اهتمام: ففي كل عصر كان هناك شعب، وكان هناك حكام، وفي كل عهد كانت مصالح الطرفين متناقضة. والإنتخاب عملية ضخمة معقدة يقوم بتسييرها الحكام أنفسهمن يوجهها الوجهة التي يريدون، أولئك الذين يملكون وسائل الدعاية ويتقنون فنون تكييف الرأي العام. وطبيعي أن تكون النتائج لفائدة هؤلاء وأولئك، وهم من طبقة واحدة وذوو مصالح مشتركة. فمهما كان وعي الشعب قوياً وسخطه على الأوضاع حاداً، هناك بالمقابل عدة وسائل وطرق لتزييف إرادته. وكم من مرات زيفت الإنتخابات! إن عملية الإنتخاب والتزييف أصبحتا متلاحمتين لا تفترقان، خاصة في البلدان التي برز فيها الصراع بين الشعب والحكام.
ونعود إلى سؤالنا السابق: هل أصبحت الديمقراطية عديمة الجدوى؟ وبعبارة أخرى هل صحيح أن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تحقق أهداف الشعب وآماله، ومن ثم يجب الكفران بها ومحاربتها وباعتبارها عملية تزييف وتضليل!
أراني مرة أخرى أؤجل الجواب عن هذا السؤال لأطرح سؤالاً آخر أساسياً في الموضوع: ما هي أهداف الشعب وآماله؟
في كل زمان وفي كل مكان يهدف الشعب إلى حياة أفضل، حياة خالية من المظالم الإجتماعية. إنه وإن لم يكن الرجل فقيراً معدماً فإن مجرد وجود أناس بجانبه أكثر منه ثروة وأكبر إمكانيات يجعله يشعر بالحرمان، بالظلم الإجتماعي. وليس من الضروري أن يعي هذا الرجل حقيقة هذا الظلم ومصدره، فإن مجرد شعوره بالحرمان يجعله في قلق وبؤس.
فأهداف الشعب إذن تتخلص في خلق أوضاع يعيش في كنفها في غير قلق ولا بؤس. وبديهي أن مثل هذه الأوضاع لا يمكن خلقها إلا على أنقاض الأوضاع الظالمة التي يرزح تحتها، وهي نفسها الأوضاع التي تيسر لفئة قليلة من الأمة العيش الرغيد والحياة الكريمة. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الفئة وتناضل بكل قواها للحفاظ على هذه الأوضاع كما هي، إن لم تعمل على تنميتها.
هناك صراع إذن بين أغلبية ساحقة لا يمكن لأهدافها أن تتحقق إلا بتغيير هذه الأوضاع، وبين أقلية تجد السعادة في إبقائها وصيانتها. وهو صراع، رغم حدته، كثيراً ما لا تدرك كنهه وحقيقته تلك الأغلبية، نظراً لأنواع كثيرة من أساليب التضليل المسلط عليها والخرافات والأوهام التي تُركَّز في أدمغتها والتي تجعلها تعيش، إن لم تكن في يأس وتسليم، ففي عالم من الأحلام والمتمنيات والتشهيات. اسأل فلاحاً معدماً في أية ناحية من نواحي البلاد عما يتمنى إدراكه! يجيبك بأنه يتمنى أن يملك كذا هكتاراً، وكذا بقرة، وأنه يرجو أن يصبح مثل السيد فلان صاحب الأراضي الشاسعة والفيلا الضخمة والتراكتورات والسيارات... إلخ! واسأل عاملاً في المعمل عما يتمناه، يجيبك بأنه يرغب في أن يستريح من هذا العمل الشاق بأن يكون صاحب معمل ولو صغير، أو على الأقل صاحب عمل يسيره ويشتغل فيه معه أناس آخرون! واسأل أي بقال أو أي صاحب دكان يجيبك بأنه يتمنى أن يكون لديه حانوت أكبر وأوسع ورأس مال أضخم وأكبر! اسأل أحداً من هؤلاء عن ماذا يفهمه من كلمة "ديمقراطية"؟ يجيبك، كما ذكرنا آنفاً، بأنه يفهم المساواة، ولكن المساواة "الفوقية" لا المساواة "التحتية"، إن صح هذا التعبير. إنه يريد أن يصبح الفقراء أغنياء، ولا أعتقد أنه يرغب في أن يصبح الأغنياء فقراء ويبقى واحداً منهم.
نعم، ليست هذه النظرة هي نظرة مجموع أفراد الطبقة المحرومة، ولكن هي بالتأكيد نظرة الغالبية العظمى منهم، خاصةً في البلاد المتخلفة حيث يسيطر التخلف الفكري إلى جانب التخلف المادي، وحيث طبع النظام الرأسمالي والأساليب الرأسمالية عقول الناس.
ونعود إلى سؤالنا السابق: أمام هذا هل في إمكان الديمقراطية السياسية أن تحقق أهداف الشعب؟
الآن نستطيع أن نجيب بكل وضوح، فنقل: لا. فالديمقراطية السياسية هي ديمقراطية الحاكمين أو الأغنياء. ولكن، ليس معنى هذا أن نكفر بها ونحاربها. كلا. إنها، إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى، وسيلة يمكن إذا أحسن استعمالها أن تساعد كثيراً على تجلية الحقيقة الإجتماعية، حقيقة الصراع الذي أشرنا إليه أعلاه.
فالديمقراطية السياسية بما تدعيه من تأكيد وتوطيد للحريات العامة- ولو بصفة شكلية- في إمكانها أن تمنح كثيراً من الفرص التي تمكن من تفتيح أدمغة الشعب على تلك الحقيقة. وبعبارة أخرى إنها وسيلة ضرورية لتوعية الجماهير.