يمكن في اللحظة الراهنة التمييز بين قراءات ثلاث للواقع السياسي المصري.هناك من جهة الرؤية الحكومية التي ترى في قرار الرئيس مبارك تعديل المادة 76 من الدستور للسماح بانتخابات رئاسية مباشرة وتعددية خطوة إصلاحية تاريخية, وافقت عليها أغلبية الشعب المصري من خلال البرلمان بمجلسيه بدايةً, ثم في الاستفتاء الشعبي في 25 مايو الماضي. وتركز هنا الصحف الحكومية والكتاب القريبون من الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم على أن التعديل الدستوري لم يأت منفرداً، بل سبقته حزمة إصلاحات سياسية في العامين الماضيين أهمها تأسيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وإلغاء المحاكم الاستثنائية, وسيتلوه في الفترة القادمة عدد من التغيرات الإيجابية في مجالات قوانين مباشرة الحقوق السياسية والمشاركة السياسية ونظام الانتخابات. ترسم بذلك صورة للحكومة المصرية جوهرها التزامها بالتحول الديموقراطي التدرجي على نحو لا يخل باستقرار وأمن الدولة ويضمن استمرار تحسن الأداء الاقتصادي والحد من أزمات الفقر والبطالة. وعلى الرغم من أن الرئيس مبارك لم يفصح بعد عن نيته فيما يتعلق بترشحه لفترة رئاسة سادسة، فإن الحملة الإعلامية لدعمه بدأت بالفعل من خلال إعادة إنتاج صورة مبارك بطل الحرب والسلام ورمز الاستقرار - وكان أبرز مظاهرها حديث تلفزيوني طويل معه استغرق 6 ساعات اختير له عنوان "شهادتي على التاريخ" – والهجوم على المعارضة باعتبارها كيانات ورقية ليس لها وزن ولا تمثل قوى مجتمعية حقيقية.
ترتفع على الجانب الآخر أصوات أحزاب المعارضة والحركات الاحتجاجية المختلفة، والتي تعد الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" من أبرزها، متهمة الحكومة والحزب الوطني بالالتفاف حول مطالب الإصلاح السياسي من خلال إتباع الاستراتيجيتين المعهودتين لمبارك: إدخال تعديلات شكلية لا تمس جوهر النظام السياسي وممارسة القمع المنظم تجاه أحزاب وحركات المعارضة. وتركز المعارضة المصرية هنا على النقاط التالية:
1) يفرغ نص التعديل الدستوري للمادة 76 الانتخابات الرئاسية التعددية من مضمونها الديموقراطي من خلال الشروط التعجيزية المتعلقة بترشيح المستقلين (يشترط موافقة 250 من أعضاء البرلمان بمجلسيه والمجالس المحلية على مستوى المحافظات المصرية وجميعها يسيطر عليها بوضوح الحزب الوطني الحاكم) وكذلك المتعلقة بترشيحات الأحزاب السياسية بدءاً من الانتخابات الرئاسية لعام 2011 حيث يشترط حصول كل منها على نسبة لا تقل عن 5% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية للتمكن من تسمية أحد قياداتها كمرشح رئاسي. ودفعت هذه الشروط، وهي عادة ما تتبع في الديموقراطيات المستقرة للحد من تشرذم المجال السياسي ولا تصلح في حالة نظام سياسي سلطوي يسعى للتحول نحو الديموقراطية، المعارضة لدعوة المصريين لمقاطعة الاستفتاء وهو ما رتب محدودية نسبة الإقبال الجماهيري (53%).
2) لا يلتزم تعديل المادة 76 بمبدأ الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات الرئاسية، بل يقرر تشكيل لجنة انتخابات رئاسية تتكون من خمسة قضاة وخمسة من الشخصيات العامة يعينها البرلمان الذي يسيطر عليه والحزب الحاكم.
3) لم تستجب الحكومة لمطالب المعارضة بكل أطيافها المتعلقة بإلغاء قانون الطوارئ وتخفيف القيود المفروضة على تكوين الأحزاب السياسية والنظر في الحد من الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية.
4) رفعت الحكومة من درجة قمعها للحركات المعارضة، في المقام الأول تجاه حركة الإخوان المسلمين التي اعتقل منها ما يتجاوز 1000 عضو في الأسابيع الماضية كان من بينهم قيادات هامة, ولكنها لم تقتصر عليهم فقد حدثت اعتداءات وتحرشات جنسية تجاه نشطاء كفاية وقوى مدنية أخرى في يوم الاستفتاء على تعديل الدستور.
5) تحاول الحكومة الالتفاف حول مطالب القضاة المصريين المتعلقة بالرقابة القضائية الكاملة والمستقلة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية من خلال إتباع سياسة العصا والجزرة, مستخدمة في ذلك وزارة العدل وجهات إشرافية تابعة للسلطة التنفيذية أهمها المجلس الأعلى للقضاء.
6) أما فيما يتعلق بالرقابة الدولية على الانتخابات، وهي النقطة التي تشدد عليها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فتبدو المعارضة المصرية منقسمة بين معسكر يرفضها ويعتبرها شكلاً من أشكال التدخل الخارجي غير المرغوب به ومعسكر آخر يرى أن الرقابة الدولية أضحت عرفاً عالمياً مقبولاً (تمارسه الدولة المصرية التي شاركت منها وفود حكومية وغير حكومية في الرقابة على الانتخابات الرئاسية الفلسطينية في مطلع العام الحالي) لا يمس السيادة الوطنية بأي حال من الأحوال (اللافت في الأمر أن جماعة الإخوان المسلمين أقرب إلى المعسكر الثاني منها إلى المعسكر الأول).
يدفع جل هذه العوامل قوى المعارضة المصرية في التحليل الأخير نحو الاستمرار في تعبئة الشارع في اتجاه المطالبة بإصلاحات سياسية جذرية والضغط على الحكومة في هذا الشأن خاصة إلغاء قانون الطوارئ، والتركيز بعد خسارة معركة التعديل الدستوري والانتخابات الرئاسية على الانتخابات البرلمانية وإجراءات إدارتها خاصة قضية الرقابة – إن كانت وطنية أو دولية - والحد من التجاوزات المتوقعة من وزارة الداخلية ودعم التواجد الإعلامي لمرشحي أحزاب المعارضة المختلفة. تستند القراءة الثانية إذن، قراءة المعارضة، على رؤية صراعية للحظة السياسية الراهنة في مصر, واستحالة توقع حدوث إي إصلاح جوهري بدون الاستمرار في الضغط على الحكومة والتوظيف الفعال للغطاء الدولي المتوفر الآن للتحول الديموقراطي (كان من اللافت أن يقرر المرشد العام لجماعة الإخوان السيد مهدي عاكف أن المطالبة الدولية بالإصلاح الديموقراطي في مصر وغيرها من الدول العربية لا تجافي من حيث المبدأ حقيقة الحالة السياسية الراهنة).
أما القراءة الثالثة والأخيرة، وهي أقرب إلى منطق الملاحظة والمقارنة بين مراحل تاريخية مختلفة، فتنطلق من حقيقة أن الزخم الحالي للحياة السياسية في مصر يعد غير مسبوق إن على مستوى الكثافة أو التنوع ويفرض على طرفي المعادلة، الحكومة والمعارضة، أنماطاً جديدة من التفاعلات السياسية ستدفع حتماً في نهاية الأمر نحو مزيد من الحرية والتعدد. لم تعهد الحكومة منذ بدء عهد مبارك في 1981 التظاهر المنتظم لقوى المعارضة وارتفاع أصوات احتجاجية داخل مؤسسات الدولة، لم تخبر أيضاً منافسة المعارضة إعلامياً لها من خلال القنوات الفضائية العربية وغريب تماماً عليها أن تصل أجندة المعارضة بصورة تفصيلية إلى البيت الأبيض وحكومات الاتحاد الأوروبي. المعارضة من جانبها, وإن اعتادت على قمع الحكومة, فإنها أنها محدودة الخبرة حينما يتعلق الأمر بحالة مواجهة مستمرة معها وبفرص وتحديات جديدة تفرض عليها التنسيق بصورة تتخطى الحواجز الأيديولوجية بين القوى المدنية والدينية. تظهر على السطح إذن ممارسات غير مسبوقة لا تخلو أحياناً من طرافة؛ تقمع قوات الأمن المتظاهرين يوم الاستفتاء وينتقدها رئيس الوزراء ثم الرئيس (وإن بعد اتصال هاتفي مع الرئيس بوش)، تشكل المعارضة حركة للتغيير وترفع شعار كفاية فيرد الحزب الوطني بشعار "مش كفاية" وحركة "الاستمرار من أجل الاستقرار"، تستغل المعارضة أغنية شهيرة للمطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم حول سلبية الحكام العرب في نقد مبارك فتقوم الحكومة بإقناع المطرب بأداء أغنية جديدة بعنوان "من غير نعم أو لا، مبارك الأحق"، يطالب عدد من الفنانين بالتحول الديمقراطي وتشكل مجموعة أخرى منهم فريقاً لدعم مبارك والاستقرار. النتيجة هي تنافس الحكومة والمعارضة على الرأي العام محلياً وعالمياً وقبول كل منهما وجود الآخر عملياً. لذلك وعلى الرغم من محدودية وبطء خطوات الإصلاح الفعلية حتى الآن, ومن تلاعب الحكومة والضعف النسبي للمعارضة فأن اللحظة التعددية الراهنة ستدفع بالقطع في اتجاه مرحلة نوعية جديدة من التحول الديمقراطي في مصر ربما كانت بدايتها الانتخابات البرلمانية في أكتوبر القادم.